صحة

هل يمكن علاج الاكتئاب دون دواء؟

لا يزال كثير من المرضى يتخوفون من مضادات الاكتئاب أو لا يستطيعون تحمل آثارها الجانبية، فما الحل المناسب في هذه الحالة للسيطرة على هذا المرض العضال؟

future صورة تعبيرية: علاج الاكتئاب بدون دواء

هناك عديد من المجموعات الدوائية من مضادات الاكتئاب التي تتباين في تأثيرها العلاجي وآثارها الجانبية. ولا شك أن تلك الأدوية قد أحدثت خلال العقود الماضية نقلة إيجابية في تحسين أعراض الاكتئاب، واستعادة المرضى لقدرٍ من الفاعلية في حياتهم العملية والأسرية والاجتماعية، والأهم، تقليل فرص حدوث مضاعفات الاكتئاب الخطيرة مثل الميول الانتحارية، وارتكاب جريمة الانتحار.

لكن على الرغم من هذا فلا يزال كثير من المرضى يتخوفون من مضادات الاكتئاب، أو لا يستطيعون تحمل الآثار الجانبية لها، أو لا يقدرون على المداومة عليها بانتظام كما ينبغي على مدار أشهر وسنوات، أو لا تحقق بمفردها النتائج المرجوة، وهنا يكون للعلاجات غير الدوائية بكافة أنواعها دور محوري في السيطرة على المرض.

كقاعدة، في غالبية حالات الاكتئاب المرضي، لا سيما من الدرجات الشديدة، يحتاج المريض إلى خطة علاج متكاملة تشمل العلاج الدوائي وغير الدوائي، مع تغييرات جذرية في نمط الحياة والبيئة المحيطة، ويصعب كثيراً السيطرة على الحالة من دون علاج دوائي. لكن في حالات الاكتئاب الأقل وطأة، أو في حالة التشخيص المبكر للاكتئاب من قبل الطبيب النفسي المعالج، يمكن للعلاجات غير الدوائية وفي مقدمتها العلاج النفسي psychotherapy، أن تلعب الدور الأكبر في السيطرة على هذا المرض النفسي العضال.

العلاج النفسي psychotherapy

أحياناً يطلق عليه اسم العلاج بالحديث Talk Therapy، حيث يركز على حديث المريض بشكل مطول مع المعالج النفسي، ومن خلال هذا الحديث المعمق، يستكشف المعالج الكثير عن أفكار المريض وقناعاته وخلفيته الأسرية والاجتماعية والثقافية والدينية، ومن خلال هذا يتكون لديه فكرة شاملة عن نقاط الضعف والأفكار غير الإيجابية، التي استطاع الاكتئاب أن يتسلل من خلالها إلى هذا الشخص، ويفسد عليه الكثير من جوانب حياته. ويمتاز العلاج النفسي بقدرته المزدوجة في مواجهة الاكتئاب، فهو يساعد المريض على تجاوز النوبة الحالية من الاكتئاب، وكذلك تقليل فرص إصابته بنوباتٍ لاحقة من الاكتئاب.

لا مبالغة إذا اعتبرنا في حالاتٍ عديدة لمصابين بالاكتئاب، أن العلاج الدوائي يكون أشبه بالمسكنات، فدوره قد يقتصر على تقليل الألم النفسي الناجم عن الإصابة بالاكتئاب بدرجات متفاوتة، ومساعدة المريض على استعادة بعض أنشطته الشخصية والعملية والاجتماعية، بينما العلاج النفسي هو الذي يحاول حل المشكلة جذرياً، عن طريق إحداث تغيير تدريجي لكنه جذري في نمط تفكير المريض، وردود أفعاله على ما يحيط به من أفكار وأحداث وظروف، ليتفاعل بشكل أكثر إيجابية، ويصبح أقل عرضة لعودة الاكتئاب وتفاقمه. وبالتالي فالعلاج النفسي أبقى أثراً على المدى الطويل، وإن كان العلاج الدوائي عادة ما يكون أسرع في ظهور تأثيراته.

على مدار جلسات متتابعة، يدرب المعالج النفسي مريض الاكتئاب على اكتساب مهارات متعددة تساعده على التجاوز، من أهمها مهارات حل المشكلات المختلفة التي تعرض له بشكل فعال وسريع حتى لا تتحول إلى عبء نفسي كبير، وكذلك مهارات التأقلم Coping مع بعض الظروف الضاغطة التي لا يمكن التخلص منها بشكل تام. مثل تلك المهارات الإيجابية، تترسخ لدى المريض بالممارسة، وبمرور الوقت، ومع تعديل الكثير من أفكاره وقناعته، تتحسن مناعته النفسية، وتقل فرص سقوطه مجدداً في بئر الاكتئاب السحيق مع التعرض لضغوط حياتية جديدة.

وقد أثبتت دراسات علمية عديدة مدى فاعلية العلاج النفسي في مواجهة حالات الاكتئاب المقاوم للعلاج الدوائي، فهو يساعد كثيراً في إقناع المرضى بأهمية العلاج الدوائي الذي وصفه الطبيب النفسي، ويحسن فرص انتظامه في تعاطيه، مما يزيد من آثاره الإيجابية، ويساعدهم أيضاً على التأقلم مع الآثار الجانبية لمضادات الاكتئاب، التي تدفع الكثيرين للانقطاع عن تناولها، فيحدث لهم انتكاسات صحية.

من أشهر أنواع العلاج النفسي، وأكثرها شيوعاً، العلاج المعرفي السلوكي CBT، الذي يركز على أفكار ومعتقدات المريض لكشف نقاط الضعف فيها، واستبدال أفكار أكثر إيجابية بها، وتدريب المريض على التفاعل الإيجابي مع الظروف المحيطة به، والتغلب على بعض التصورات والأفكار المسبقة التي تشرع الأبواب أمام إصابته بالاكتئاب. وأحياناً يركز المعالج النفسي على مسألة العلاقات والتفاعل الاجتماعي عندما يرى أن مكمن المشكلة لدى مريضه هو العلاقات ذات الآثار السلبية.

هناك نوع خاص من العلاج المعرفي السلوكي، هو العلاج الجدلي السلوكي DPT، الذي يُحدِث نتائج أفضل في الشخصيات شديدة الحساسية، ويساعدهم على تحقيق المعادلة الصعبة بين تحقيق قدر كبير من الرضا عن الذات، وفي الوقت نفسه استكشاف نقاط الضعف الشخصية والفكرية ومواجهتها. كذلك يساعد هذا النمط من العلاج على اكتساب مهارات اليقظة الذهنية Mindfulness التي تساعد على التركيز بشكل أساسي على اللحظة الراهنة والاستفادة منها جيداً، بدلاً من التمحور حول الماضي أو هواجس المستقبل.

العلاجات البديلة

في بعض الأحيان، لا يتحسن مريض الاكتئاب بشكل كامل بالخطة المعتادة التي تشمل مضادات الاكتئاب مع العلاج النفسي Psychotherapy، وهنا يأتي دور بعض العلاجات البديلة، التي لا يزال بعضها مثار نقاش وبحث علمي، لكن لاحظ الأطباء النفسيون والمعالجون بالتجربة أنها قد تحدث تأثيراً إيجابياً في العديد من حالات الاكتئاب لا سيما المستعصية. ولكن نوصي بعدم الاكتفاء بتلك العلاجات البديلة، إنما جعلها تتكامل مع خطة علاج الاكتئاب دوائياً ونفسياً، وتحت إشراف الطبيب النفسي المختص. ومن أبرز العلاجات البديلة للاكتئاب ما يلي:

  • الرياضة المعتدلة: من أهم أعمدة نمط الحياة الصحي، ممارسة الرياضة المعتدلة بشكل منتظم أو على الأقل شبه منتظم. والحد الأدنى هو ممارسة رياضة المشي نصف ساعة يومياً، على الأقل خمسة أيام أسبوعياً. وأفضل منه ممارسة بعض الرياضات المعتدلة الممتعة مثل كرة القدم أو كرة السلة... إلخ للاستفادة أيضاً من الأثر الإيجابي للاحتكاك الاجتماعي على الحالتين المزاجية والنفسية.
  • العلاج بالأعشاب: هناك عدد محدود من الأعشاب أظهرت نتائج إيجابية في علاج الاكتئاب، ويسمح طبياً بتداولها لهذا الغرض، مثل عشبة سان جورج التي يشيع استخدامها في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأخرى، وتحظرها فرنسا نتيجة تفاعلها مع العديد من الأدوية.
  • الإبر الصينية: هذا العلاج التقليدي الصيني، الذي لا يزال العلم يحار في تفسير الكثير من آثاره الإيجابية، أظهر بعض الفاعلية في تحسين أعراض بعض المكتئبين، ويعتقد أن هذا نتيجة أنه يُحسِّن بوجه عام تحمل الجسم للآلام، ويُحفِّز إفراز بعض المواد في المخ التي تقلل من الإشارات العصبية الناقلة للألم الجسدي والنفسي.
  • الاستشفاء بالطبيعة: أسهم قضاء المزيد من الوقت في ممارسة الأنشطة في المناطق الطبيعية في تحسن أعراض الاكتئاب لدى الكثيرين، لا سيما تلك المناطق البعيدة تماماً عن صخب الحياة الحديثة وضغوطاتها السلبية مثل الواحات الصحراوية أو الغابات أو المحميات الطبيعية.
  • تمارين الاسترخاء والتأمل واليوجا: أظهرت تلك التمارين فاعلية في تحسين أعراض الاكتئاب، لا سيما السيطرة على التوتر والانفعال الشديد اللذين يصاحبان الاكتئاب عادة، وتساهم تدريبات التنفس العميق في القيام بهذا الدور، وكذلك يساعد التأمل حول بعض الأفكار الإيجابية على تشتيت ذهن المريض عن التمحور حول الاكتئاب وأثره السلبي على حياته.
  • جلسات الاستشفاء الجماعي: أظهر بعض مرضى الاكتئاب تحسناً بحضور جلسات مع مرضى آخرين لتبادل الخبرات والتجارب والأفكار والمشاعر تحت إشراف المعالج النفسي الذي يديرها بشكل يحقق أكبر قدر من الفائدة للحاضرين.
  • الفنون والأنشطة الابتكارية: تساعد في تحسين أعراض الاكتئاب، وزيادة ثقة المرضى بأنفسهم وتقليل المشاعر السلبية مثل الصورة الذهنية السلبية عن النفس.

دور الدين والجوانب الروحانية

الطب النفسي الحديث هو ابن الثقافة الغربية، ونزوعها الكبير إلى المادية على حساب الروحانيات، وبالتالي فمسألة دور الدين والتدين في علاج الاكتئاب لا تحظى بكثير من مساحات الاهتمام في البحث العلمي الطبي، وإن كان لدينا العشرات من الدراسات الجيدة التي تناولت بعض أوجه تلك القضية المهمة، مثل دراسة إيرانية موسعة نشرت في المجلة الإيرانية للصحة العامة عام 2019، ومفهرسة على محرك البحث الأمريكي الشهير PubMed.

أظهرت الدراسة أن هناك علاقة عكسية -وإن لم تكن بالغة القوة- بين التدين والإصابة باضطرابات القلق والاكتئاب لدى الآلاف من الطلاب. وفي مقال سابق للكاتب عنوانه (هل يساعد التدين المكتئبين؟ العلم يجيب)، استفاض في استعراض نتائج عديد من الدراسات العلمية حول العالم التي تناولت العلاقة بين التدين الإيجابي وعلاج الاكتئاب والوقاية منه، ينصَح بالرجوع إليه.

# الاكتئاب # الطب النفسي # صحة

«نوبل» في الطب 2024: لماذا لا يملك البشر زعانف السمكة؟
بحثاً عن الكمال: هل يجب تقنين المنشطات في الرياضة؟
السرطانات المتأخرة: هل لا يزال الشفاء ممكناً؟

صحة